هناك رافدان أساسيان استقي منهما العرف القبلي لبدو سيناء مواده وأحكامه، وهما أولاً: العرف أو القانون العربي القديم، وهو من أقدم القوانين في العالم، لكنه صيغ ليتلاءم مع طبيعة الشعوب العربية البدوية، التي تشكل فيه القبيلة أو العشيرة أو العائلة الوحدة الأساسية لبناء المجتمع، ولهذا لم تستند المسؤولية القانونية إلي الفرد، بل إلي القبيلة ثم العشيرة وأخيراً العائلة.
أما الرافد الثاني من روافد العرف القبلي بين بدو سيناء، فهو الرافد الإسلامي الذي جاء نتيجة لهجرة بعض القبائل العربية التي حملت لواء الإسلام بعد فتح مصر.
وتنقسم درجات التقاضي عند بدو سيناء إلي ٣ درجات لكل درجة منها قاض، فالقاضي الأول بمثابة «محكمة ابتدائية»، والقاضي الثاني بمثابة «محكمة استئناف»، والثالث بمثابة «محكمة النقض» وللوصول إلي مرحلة النقض يستلزم ذلك أن يكون حكم القاضي الأول مناقضاً لحكم القاضي الثاني.
ويعد وجود ثلاثة قضاة وثلاث مراحل للتقاضي سمة إيجابية لنظام التقاضي البدوي، أما رسوم التقاضي فتسمي بـ«الرزقة»، هي تختلف حسب أهمية الدعوي وتبدأ من نعجة وتنتهي إلي ثمانية جمال.
وفي الشهادة يكفي في عرف قبائل سيناء شاهد واحد لإثبات الدعوي، لكن شريطة نزاهته وحسن سلوكه الأخلاقي.
أما حلف اليمين للشهادة فيتم قبل الإدلاء بالشهادة، وأنواع الحلف المقبول عند بدو سيناء هي أولاً: الخطة والدين والخطة دائرة ترسم علي الأرض برأس السيف ويجلس الشاهد وسطها ويحلف بستة كلمات ثم ينطق بالشهادة، وثانياً: الحلف بالرأس بأن يضع المدعي يده علي رأس المدعي عليه، ويذكر اسم الله ثلاثا قبل تأدية الشهادة، وثالثا: الحلف بالحزام، وهو أن يضع المدعي يده في حزام وسط المدعي عليه ويحلف بالله ثلاثا أن يقول الحق قبل أن يؤدي شهادته.
ورابعاً: الحلف بالعود، حيث يأخذ الشاهد غصن شجرة، ويقول: «وحياة العود والرب المعبود ومن أخضره وأيبسه رأيت كذا». ويضاف نوع آخر للحلف هو الحلف بـ«الطلاق ثلاثا»، ولا يتم اللجوء إليه كثيراً، حيث يقول الشاهد ثلاث مرات «امرأتي طالق»، ثم يؤدي الشهادة، فإذا أعطي شهادة زور وقع الطلاق.
ورغم قبول البدو ليمين الشاهد وشهادته، فإنهم في بعض الحالات يفضلون علي أداء اليمين طقساً بدائياً قديماً يعرف عندهم بـ«البشعة» أي اختبار المتهم، إما بالنار أو بالماء أو بالرؤيا والحلم، وهم يعتقدون بأن المتهم إذا كان مذنباً جف ريقه من الخوف والرعب، وأثرت النار في لسانه والعكس إذا كان بريئاً، أما الاختبار بالماء فهو طقس غريب إذ يأخذ فيه المبشع أبريقاً من نحاس مملوء بالماء ويشكل حلقة من الحضور ومعهم المتهم، ثم يشرع في التعزيم علي الإناء فيتحرك الإناء عنده إذا كان مذنباً، ويقف عند المبشع إذا كان بريئاً. ولا يوجد في سيناء وفلسطين سوي مبشع واحد للمنطقتين وهو من قبيلة العيايدة، ويتوارث هذه المهنة عن أجداده.
ويتسم نظام القضاء العرفي بين بدو سيناء بتخصص القضاة، حيث إن لديهم قضاة لكل نوع من القضاة، وكثيراً ما تقع أحداث خطيرة في سيناء، تستدعي تدخل ما يسمي رجال الصلح أو كبار العرب لفض النزاعات التي قد تؤدي إلي تطورات خطيرة.
أما القاضي الذي يتولي المسائل الشخصية الخطيرة كقطع الوجه أو مس الشرف والإهانة الشخصية، فيسمي المنشد أو المسعودي، لأنهم ينتمون إلي قبيلة المساعيد بالعريش.
وقطع الوجه من المسائل الخطيرة الماسة بالشرف في عرف بدو سيناء، فإذا اقتتل رجلان، وقال أحد الحضور رميت وجهي أو وجه فلان بينكم توقفا عن القتال، حيث للوجه حرمة عظيمة لديهم.
وهناك الوثاقة أو الرهن، وهو أخذ الإبل خلسة للحصول علي حق خشة أن يضيع بالمماطلة، وكانت الحكومة تستخدم هذا العرف القبلي في تعاملها مع هذه القبائل،
وحينما كان سعد بك رفعت كومنداناً لسيناء ١٨٩٢ خطف شاب من قبيلة الصفايحة بنتاً من قبيلة التياها، فأسرع سعد ورمي وجهه عليهم لمنع قبيلة التياها عنهم، وانتهي الأمر بالحكم علي الصفايحة بأربعين جملاً للتياها وتم تخفيضها إلي ثمانية جمال فقط.
أما قضايا الجروح في سيناء فلها قاض خاص يعرف بالقصاص، وهو بمثابة قاضي العقوبات، حيث يقوم بتعيين الجزاء الذي يستحقه كل جرح حسب طوله وعرضه وموقعه، أما كسر الساق أو الذراع أو إتلاف العين أو أي عضو من الأعضاء الرئيسية للجسم، فغرامتها نصف الدية أي ٢٠ جملاً.
والعرف القبلي لديهم لم ينس البيئة المحيطة، حيث يحرم عمل الفحم من الشجر أو النباتات الخضراء، لأهمية وجودها في الصحراء. ومن العادات التي ترجع إلي التاريخ العربي القديم عادة الأخذ بالثأر، فإذا قتل شخص ما فلأهل القتيل القربين من الأب والجد حتي الدرجة الخامسة، ومن الابن وابن الابن والأخ وابن الأخ والعم وابن العم، حتي العصب الخامس، أن يأخذوا بثأرهم من القاتل وأهله الأقربين إلي العصب الخامس، فإذا فازوا بثأرهم وقتلوا القاتل أو أحداً من أهل الأقربين ينتهي الأمر.
أما إذا نجح القاتل في الهروب بأهله واحتمي بقبيلة أخري قبل أن يلحقهم أهل الثأر توسط بينهم عقلاء القبيل التي احتموا بها، وإذا ارتضي الطرفان الصلح، يأتي أهل القاتل بالدية وهي أربعون جملاً وناقة هجين تعرف بـ«الطلبة».
وفي حالة أن القاتل والقتيل من قبيلة واحدة، وجب علي أهل القاتل أن يقدموا فوق الدية المعتادة «غرة» أي بنت بكر يأخذها أحد أقارب القتيل بدون مهر بصفة زوجة، وتظل لديه إلي أن تلد ولداً فيصير لها الخيار بين العودة لأهلها حرة، وبين أن تجدد زواجها، وتبقي مع أب ولدها بعد أخذ مهرها، ولما في هذه العادة من امتهان لكرامة الفتاة، جاز العرف أن تفدي بخمسة جمال.
هي هيئة محكمة مكتملة الأركان.. قاض، ومستشارون، ودفاع، وشهود، وحاضرون، وحكم يصدر آخر الجلسة مثل حد السيف، الذي يجري علي رقبة الجميع دون أن يكون لهم حق الاعتراض.. محكمة لا تختلف عن المحاكم العادية في شيء.. فقط القاضي فيها لا يضع وشاحاً أخضر علي صدره ولا يرتدي دفاع المتهم «روباً» أسود، كما أن المتهم نفسه لا يدخل إلي قفص الاتهام مهما كانت جريمته.. وفي ختامها.. لا يصيح الحاجب منادياً: محكمة! فالجلسة ليست إلا صورة من جلسات القضاء العرفي المعمول به في عدد كبير من قري ومدن تمتد بطول مصر وعرضها.
ورغم أن تاريخ القضاء العرفي في مصر قديم جدا، فإنه يصعب الاتفاق علي تحديد تاريخ لدخوله مصر، وهناك آراء ترجح أنه قادم من الجزيرة العربية بصحبة الفاتحين العرب الذين دخلوا مصر واستوطنوها من قرون عديدة، وربما يفسر ذلك سر استمرار القضاء العرفي في البيئات البدوية والقبلية والصعيد والدلتا حتي الآن، فكما يقول الحاج على ابو محارب قاضى عرفى من عشيره الهروش كبير عائله اولاد منصور » من قبيلة البياضيه بشمال سيناء وأحد المتابعين لجلسات القضاء العرفي إن السبب في أن البدو يعملون به هناك يرجع إلي الحياة البسيطة الخالية من التعقيدات، التي يعيشها البدو من قديم الزمان وهي الحياة التي دفعتهم إلي التمسك بالقضاء العرفي لسهولته وسرعته في الفصل بين المتنازعين».
ويصف الحاج على» إجراءات التقاضي في المحكمة العرفية بأنها تبدأ بأن يرسل صاحب الحق أوالشكوي دعواه إلي القاضي، الذي عادة ما يتم اختياره بناء علي سمعة حسنة يتمتع بها في القبيلة وهناك نوعان من القضاء معمول بهما في شمال سيناء أولهما القضاء «العقبي»، الذي يتم اختيار قاضيه من قبيلة بني عقبة وعادة ما يتخصص في قضايا السيدات، والنوع الثاني وهوالقضاء المسعودي، الذي يتم اختيار قاضيه من قبيلة المساعيد ويختص بقضايا الأملاك والزراعات، ويتم تحديد موعد لنظر القضية يدفع قبلها كل من الشاكي والمشكو في حقه مبلغا ماليا يعرف بـ «الرزقة» وهو رسم لإثبات جدية النزاع بين الطرفين تتم إعادته لهما بعد انتهاء القضية إذ إن جميع إجراءات التقاضي مجانية
ولا يشترط أن تكون «الرزقة» مبلغاً مالياً، فربما كان الطرفان لا يملكان مالاً فيرتضي القاضي وقتها بأي ضمانة يضعانها أمامه حتي ولوكانت عقال أحدهم أوعمامته، ثم يمثل الطرفان أمام القاضي، الذي يترك الفرصة للدفاع أن يعرض وجهات النظر المختلفة، بعدها يستمع القاضي إلي الشهود ثم يصدر حكمه في النهاية ويترك للطرفين مطلق الحرية أن يأخذا به أويعرضا قضيتهما علي مجلس عرفي آخر إذ إن هناك ثلاث درجات للتقاضي يلتزم بعدها الطرفان بأن يأخذا بأي حكم فيها.
ورغم أن القانون العرفي ليس مدوناً، كما يقولالحاج على فإن هناك ما يشبه الإجماع علي الأحكام التي يصدرها القضاء العرفي عموما علي سبيل المثال فإن الشائع في أحكام القضاة هناك هو دفع الدية حتي في جرائم القتل، التي تمثل حساسية شديدة هناك كما تفرض الدية في معظم القضايا هناك.ويقول الحاج سعد الهرش من شمال سيناء
إن أحكام القضاء العرفي لا تقتصر فقط علي البدو الذين يعيشون في المجتمع البدوي وإنما تمتد لتشمل بعض أبناء الحضر الذين يرغبون في أن يعرضوا قضاياهم علي المحاكم العرفية، ويضيف «كل قبيلة لها قاض خاص بها وهو يستمد أحكامه في الأصل من عادات البدو وتقاليدهم، التي لايزالون يتمسكون بها حتي الآن وهي الأحكام التي يلتزم الجميع بتنفيذها حتي ولوجاءت علي غير هواهم والذي يتجرأ ويرفض تنفيذ الحكم تنبذه القبيلة وقد تطرده من حمايتها ومنازلها أيضا ولا ويقول سعد الهرش» أي عيباً في القضاء العرفي بل إنها تذهب بعيداً عندما تقول إن المشاكل لم تظهر في المجتمع البدوي إلا بعد أن لجأ الناس إلي القضاء العادي.
وتقدم الدكتورة «هدي منسي» رئيس جمعية شباب المستقبل لحماية البيئة وحماية التراث السيناوي تفسيراً لوجود القضاء العرفي في سيناء بقولها إن القضاء العرفي ظهر في المجتمع البدوي وتجذر هناك، نظراً لبعد هذه الأماكن عن المدن وحاجة الناس إلي قضاء سريع يفصل بين منازعاتهم.
علي أن القضاء العرفي المنتشر في سيناء يجد طريقه إلي مدن الوجه القبلي أيضا، التي يؤمن الأهالي فيها بالمثل الشعبي الذي يقول «اللي اشتكاك عاداك»، ولذلك فهم نادراً ما يلجأون للقضاء العادي ويحاولون أن يحلوا مشاكلهم عن طريق القضاء العرفي كما يؤكد «حساني عثمان إسماعيل» أحد أبناء محافظة قنا، ويضيف إن القضاء العرفي ينتشر في القري تحديداً، خاصة في مجال الخلافات الزوجية عملاً بالنص القرآني، الذي ينص علي «حكماً من أهله وحكماً من أهلها» حفاظاً علي العلاقة بين الطرفين، التي من الممكن أن تفسد إذا لجأ الطرفان للقضاء العادي.
كما ينتشر أيضاً القضاء العرفي في جرائم القتل وقضايا الثأر نظراً لصعوبتها وحساسيتها حتي في حالة عرضها علي القضاء العادي، الذي غالباً ما يصدر أحكامه فيها بالحبس فقط لأسباب كثيرة، وهي أحكام عادة لا ترضي أهل القتيل فيلجأون للثأر بأنفسهم، وبذلك تنفتح حمامات الدم بين العائلات لسنوات قد تطول بصورة لا يمكن تصديقها، وهنا كما يؤكد «حساني» تبرز أهمية القضاء العرفي في الفصل بين هذه المنازعات فيتم الاتفاق مع العائلتين علي عقد الجلسة وبعدها عادة ما يصدر الحكم بـ «القودة» وهي عبارة عن تقديم الجاني أو أحد من أهله إلي ولي الدم وهويحمل كفنه علي يديه وأحياناً يوضع في رقبته حبلا ليجر مثل الذبيحة إمعاناً في إذلاله ويكون لولي الدم الحق في أن يعفو عنه أويذبحه بيده غير أنه دائما ما يعفو.
ويحدد حساني صفات القاضي العرفي في الصعيد بعدة أشياء منها أن يكون صاحب «كاريزما» تمكنه أن يجد قبولاً من الجميع، كما يجب أن يكون «جيداً» أوبمعني آخر «كريماً» وعلي استعداد دائماً للدفع من جيبه الخاص للتوفيق بين الخصوم وعادة ما يكون رئيس قبيلة أوكبير عائلة ويتم علي هذا الأساس اختياره في لجان المصالحات في قضايا الثأر الكبيرة وهي مسألة تطوعية في المقام الأول لا يتقاضون عنها أي أموال.
كان يجب أن نستطلع رأي قانونيين في القضاء العرفي فيقول الدكتور «حمدي عبد الرحمن» أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق جامعة عين شمس: إن القضاء العرفي موجود عند العرب والقبائل العربية وبعض مناطق الصعيد وهو يقتضي قدراً من التقاليد الراسخة عند هذه المجتمعات كما يتطلب أيضا قدراً من القناعة يجعلها ترتضي حكم القضاء العرفي ويري الدكتور «حمدي» أن بديل القضاء العرفي هو نظام التحكيم الذي يجد طريقه حالياً إلي القضاء العادي ويحتاج إلي نشر ثقافته في المجتمع، غير أن الدكتور «حمدي»، يعود ليؤكد أن التحكيم لا يصلح في كل القضايا وإنما يجوز التحكيم فيما يجوز الصلح فيه وهي جميع المنازعات المدنية وعلي رأسها قضايا الثأر أما قضايا مثل الأحوال الشخصية فلا يجوز التنازل فيها علي أشياء مثل حضانة الأطفال.
ويتفق الأستاذ «محمود الصاوي» محام دولي مع الرأي السابق ويضيف عليه أن القضاء العرفي الذي ينجح في حل منازعات كثيرة في الأماكن النائية في حاجة لتصديق من المحكمة حتي يجد طريقه للتنفيذ وإلا قد يجد القضاة العرفيون أنفسهم أطرافاً في النزاعات، التي يفصلون فيها ويتم تقديمهم للمحاكمة في قضايا الشيكات
وحتي نظام التحكيم المعمول به حالياً في بعض القضايا في حاجة لتصديق من القضاء العادي حتي يجد طريقه للتنفيذ، لأن قرار التحكيم غير ملزم إلا عندما يصدر حكم من المحكمة بتنفيذه، رغم أنه قانون قديم، إلا أن الدولة بدأت تأخذ به بجدية كذلك الشركات الأجنبية والمصرية، التي تضع في تعاقداتها شرطاً يلزم الطرفين في حالة ظهور نزاع أن يلجأوا إلي التحكيم ومن الممكن الاستعانة بمحكمين دوليين وأجانب برعوا في هذا النوع من التحكيم ويعود الأستاذ «محمود»، ليؤكد أن التحكيم صورة من صور القضاء العرفي، الذي قد نجد صورة منه أيضا في محاكم الأسرة، التي تحاول أن تحل قضايا الأحوال الشخصية بأقل خسائر ممكنة